التحرير عبر لا مركزية راديكالية

كتب هذا المقال فيتاليك بيوترين وجلن وايل وصدر بالإنكليزية على مدونة فيتاليك على ميديوم. ترجمته تفكير للعربية.

—————————

تواجه المجتمعات الثرية حول العالم أزمة ثقة متفاقمة بالسلطات المكرسة. ردة الفعل الشعبية المستاءة جاءت نتيجة اقتصادات راكدة، لا مساواة متزايدة، فساد سياسي وارتفاع في مستوى الاحتكارية في قطاع التكنولوجيا لمصلحة النخبة. نتشارك مشاعر الاستياء هذه ونستمد دافعنا منها. مع ذلك، نخشى في ذات الوقت أن ردة الفعل الأكثر انتشارًا من كلا اليمين واليسار (انسحاب من التكنولوجيا والأسواق والتعاون الدولي) قد تدمر عدة من أكثر الأمور التي نقيمها في مجتمعاتنا المعاصرة، بينما تعمق المشاكل التي تسعى إلى حلها.

على مدى نصف العقد الماضي، عمل كلانا، كل بطريقته الخاصة، على جزء من حل بديل: العثور على طرق لاستخدام الأسواق والتكنولوجيا كي نفكك مركزية السلطة بكل أشكالها على نحوٍ راديكالي، وكي نتحول من الاعتماد على سلطات إلى الاعتماد على قوانين رسمية. فيما يلي، نناقش كيف تتداخل وتكمل مشاريعنا بعضها.

ركز أحدنا على (إيجاد) حلول تقنية لمشكلة مركزية التحكم المتزايدة الناتجة عن شركات احتكارية قوية في في المجالين المالي والاقتصادي الرقمي. انبثقت البيتكوين وعدة عملات مشفرة كردٍ مباشر على تكدس الفائض المالي لدى القطاع المالي التقليدي، حيث حملت أول بلوك على بيتكوين عبارة: “مجلة ذ تايمز ٠٣\كانون الثاني\٢٠٠٩ الحاكم على وشك إقرار دعمة ثانية للبنوك” (هامش: إشارة إلى دعم الحكومة البريطانية للقطاع المصرفي المنهار عقب أزمة ٢٠٠٨).

مع قولنا هذا، يجب الإشارة إلى أن الإمكانيات اللامركزية الكامنة وراء العملات المشفرة تمتد أبعد بكثير من مجرد القطاع المالي. تزدحم الأخبار بإخفاقات الأنظمة المركزية بحماية خصوصية الناس، تتراوح من حالات قرصنة كبيرة مثل إكايفاكس، إلى المخاوف الحديثة حول الخصوصية على منصات التواصل الاجتماعي. أدت مثل هذه الأحداث إلى زيادة الاهتمام والابتكار في نظم إدارة بيانات ذاتية السيادة ومتمركزة حول المستخدم (هامش: حيث يمتلك المستخدم كافة بياناته الحساسة بنفسه بدلًا من تخزينها لدى شركات مركزية)؛ وغالبًا ما تستمد هذه التصاميم استلهامها من استخدام البلوكتشين كمخزن بيانات مكلف لكن ذو موثوقية عالية جدًا.

ركز الأخر على تصميم قواعد لألعاب اقتصادية وسياسية للمجتمعات السائدة، بهدف كسر وتقليل الحاجة إلى سلطات مركزية ومركّزة – أو ما يسميه “الأسواق الراديكالية”. تميل الأملاك الخاصة التقليدية إلى خلق لا مساواة في السلطة وتخليد هذه اللامساواة، احتكار موارد في أيدٍ قليلة بدلًا من توكيلها لأفضل من يحسن استخدامها. بإمكان الأسواق الحرة الأكثر راديكاليًا وصدقًا بحريّتها أن تخلق تنافسًا ومساواةً أكبر عبر تطويع أدوات مثل المزادات والأملاك المشاعية. تميل ديموقراطية الـ شخص-واحد-صوت-واحد لاضطهاد الأقليات، الذين يلجأون إلى طلب الحماية من النظام العدلي أو السلطات الدولية، بشكلٍ ينتهي إلى تجنب الديموقراطية.

بإمكان أشكال أكثر إبداعية للديموقراطية، أشكال قادرة على منح الأقليات القوة لحماية اهتماماتهم الخاصة التي تعنيهم بشكلٍ عميق، بإمكان مثل هذه الديموقراطيات أن تعيد للحكومات مشروعيتها. أحد المرشحين الرياديين في هذا المجال هو التصويت التربيعي (Quadratic Voting)، التي يستطيع من خلاله المواطنون استخدام عملات (على الأرجح افتراضية) لشراء أصوات في القضايا التي تعنيهم أكثر من سواها، عبر دفع مربع عدد الأصوات التي يشترونها في كل قضية. (هامش: يكلف الصوت الواحد عملة واحدة، الصوتين أربع عملات، الثلاث أصوات تسع عملات، وهكذا. يحصل كل المواطنين على عملات انتخابية من الدولة دون الحاجة إلى شرائها ماليًا. بهذه الطريقة يستطيع المواطن صرف مقدار أكبر من ميزانيته الانتخابية على القضايا التي تؤثر عليه بشكلٍ أكبر، بدلًا من صرف صوت واحد على مرشح أو ممثل واحد يحمل عدة قضايا مهمة وغير مهمة).

تطورت مشاريعنا بشكلٍ منفصل إلى مدىً كبير، ولدى كلٌ منا تحفظات حول الأبعاد قريبة المدى تحديدًا من مشروع الآخر. رغم كل إمكانياتها، تظهر العملات المشفرة ميلًا نحو السلوك الفقاعي، ولا تزال حالات استخدامها المنطقية الأكثر تحديدًا قيد التطوير. في المقابل، يجب تبني المؤسسات الاجتماعية الجديدة والراديكالية بشكلٍ تدريجي وبطيء، سواءً في المجالات التقنية أو الاقتصادية أو السياسية، لتعطي فرصةً للتجريب والتعلم الاجتماعي، ولخفض مخاطر إزعاج البنى الاجتماعية الموجودة بطريقة ستتسبب بتحديدًا نوع الصراعات التي تسعى إلى حلها.

بذات الوقت، يرى كلانا الإمكانيات العظيمة للتعاون والتكامل بين مشروعينا. لأن إيثيريوم وسواها من العملات المشفرة تفتقر (عن قصد) إلى قضاة موثوقين وسلطات أخرى قادرة على الترفع في النزاعات، فإنهم يعتمدون بشكلٍ ثقيل على القواعد الرسمية ذات الشفافية. 

تتجلى قصورات قوانين الملكية والتصويت المقياسية عندما تتم تعريتها من غلافها الواقي المكون من أحكام قضائية يقف خلفها بشر. وبالتالي، تمتلك مشاريع البلوكتشين حاجة قوية لقوانين أفضل قادرة على الحفاظ على لا مركزية السلطة، وقوانين حوكمة قادرة على تجنب الحاجة إلى بيروقراطيات كبيرة لا تستطيع مجتمعات هذه المشاريع دعمها؛ لو تخيلنا سوقًا راديكاليًا يعمل بشكلٍ ناجح على البلوكتشين، سيحقق مثل هذا السوق أهدافه على أحسن وجه عبر تجنب الاعتماد على سلطات تمييزية. أخيرًا، يحمل المجتمع الملتف حول العملات المشفرة قيمًا فلسفية مشتركة، وانفتاحًا غير معهودٍ على الابتكار، ما يجعله الوسط المثالي لاختبار أفكار الأسواق الراديكالية بكلفة مجتمعية منخفضة نسبيًا.

نحن بالتالي نرى عدة فرص للتعاون ونعمل بشكلٍ مبادر لرعاية التواصلات بين ممثلي مجتمعاتنا. حتى لو لم يحقق أي من المجتمعين طموحاته المجتمعية على أوسع نطاق، هناك طيف واسع من الحالات الأكثر تحديدًا حيث تبدو التعاونات بين هذين العالمين قادرةً على تحقيق آثار مجتمعية مهمة، بما في ذلك استخدام البلوكتشين لتحسين أمان أسواق البيانات، والتصويت التربيعي لسبر الآراء في مجتمعات البلوكتشين وشبكاتها الاجتماعية. وإلى جانب الأفكار المحددة التي عملنا عليها، من استخدام طابع بريدي إلكتروني لرفع تكلفة السبام (الإيميلات الدعائية والتصيدية)، إلى توسيع الوصول لأدوات التخطيط المالي عالية الجودة لأولئك الذين تعوزهم المصادر.

أحد الأمثلة المثيرة للاهتمام لمنطقة تعاون محتملة، وهو مثل يظهر بعض التحديات الممكنة، هو استخدام التصويت التربيعي للتعامل مع المشاكل الكبيرة للحوكمة التي واجهتها مجتمعات البلوكتشين. ظهرت العديد من المحاولات لاستخدام التصويت بغرض قياس عاطفة المجتمع خلال اتخاذ قرار بخصوص تعديلات مثيرة للجدل على أحد البروتوكولات، لكن هذه الطريقة تعرضت للانتقاد إما لكونها ضعيفة أمام أساليب التلاعب بالتصويت (مثل الحسابات الزائفة) والتصويت من قبل أشخاص من خارج المجتمع، أو لكون التصويت منحاز إلى آراء مجموعة صغيرة ثرية من حملة العملات (هامش: مثل حملة الأسهم).

بإمكان التصويت التربيعي أن يقدم بديلًا معتدلًا، فبينما تؤخذ بعين الاعتبار الاختلافات بين الأعضاء في درجة تفضيلهم وانخراطهم في المجتمع، لكن لأن كلفة شراء المزيد من الأصوات تصبح عالية بسرعة (هامش: شراء صوت واحد يكلف عملة واحدة، وبالتالي بإمكان ألف شخص يملكون عملة واحدة شراء ألف صوت. شراء ألف صوت يكلف مليون عملة، وبالتالي بإمكان ألف شخص لدى كل منهم عملة واحدة أن يعادلوا بالتصويت شخص واحد لديه مليون عملة)، تصبح قدرة نخبة صغيرة على الاستيلاء على التصويت محدودةً.

على كلٍ، يفرض التصويت التربيعي تحديات تقنية ومفاهيمية على مجتمعات العملات المشفرة الموجودة بالفعل. بالتحديد، يعتمد التصويت التربيعي بشكلٍ عالٍ على فكرة وجود هويات إنسانية منفصلة يمكن التحقق منها، لأنها خلافًا لذلك بإمكان شخص لديه مليون عملة أن يوزعها على مليون محفظة ويشتري مليون صوت. الاستخدام الشائع للهويات المجهولة أو الزائفة في مجتمعات العملات المشفرة هو على تضاد مع الحاجة إلى هويات محددة بوضوح، ويؤدي بشكلٍ طبيعي إلى زيادة عدم التكافؤ في ديناميكيات الثروة والسلطة على نحوٍ كانت هذه المجتمعات تأمل بتجنبه. بعد كل شيء، لو كانت هذه المجتمعات تعترف بهوية الثروة دون هوية الشخص، قد تنتهي بالخطأ إلى خدمة الثروات بدل البشر. بهذا المعنى، التجارب مع الأسواق الراديكالية قد تساعد على توضيح أسئلة تقنية هامة تطرح نفسها وسط مجتمعات الكريبتو.

على نحوٍ أكثر عمومًا، وكما رأينا في أجزاء من الإنترنت، الاعتماد المفرط والساذج على قوانين رسمية بغرض فك مركزية السلطة قد يؤدي إلى نتائج معاكسة كإعادة تكريس الشركات الاحتكارية والنافذة. فقط عند تصميم أنظمة تقنية تقدم تنوعًا من الآليات للتحقق من مركزية السلطة وفي ذات الوقت تبني إيديولوجيات اجتماعية تترقب باستمرار القصورات الممكنة لهذه الآليات، نستطيع أن نأمل أن ننجح بما فشلت به محاولات سابقة لفك مركزية السلطة. لكننا نأمل أن مزيجًا من البلوكتشين والأسواق الراديكالية بإمكانه تقديم مساهمة هامة في تفكيك أكثر أشكال الشركات والحكومات والسلطات التقنية تعسفًا، ويبني باتجاه عالم أكثر حرية وانفتاحًا وتعاونًا في القرن الحادي والعشرين.

Add Your Heading Text Here