النقد الأصلي | كيف ألهم سكان أمريكا الأصليين عصر التنوير في أوروبا

يعتمد هذا المقال في مراجعه واقتباساته على كتاب فجر كل شيء لـ دايفد جرايبر ودايفد وينجرو.

في ربيع سنة ١٧٥٤، أعلن مجتمع أكاديمي في مدينة ديجون في فرنسا عن مسابقة وطنية لأفضل أطروحة تكتب حول موضوع “ما هو أصل اللامساواة بين البشر؟ وهل هي جزء من قانون الطبيعة؟” كان موضوع المسابقة مثير للفضول، لأن المساواة وغيابها كانت أفكار حديثة نسبيًا في المجتمع الأوروبي. وفق دراسة أجراها أكاديميين إيطاليين مؤخرًا، لم تضم أدبيات العصور الوسطى في أوروبا أي استخدام لمفردتي المساواة واللامساواة باللاتيني أو الإنكليزي أو الفرنسي أو الإسباني أو الإيطالي أو الألماني لوصف العلاقات الاجتماعية. وكان المجتمع الأوروبي معتاد على التراتبية والطبقية بشكل كبير، لدرجة الاعتقاد بأنها الشكل الطبيعي للأمور.

كان طرح أفكار مثل أصل اللامساواة في هالفترة من التاريخ الأوروبي جزء من تحول فكري عام تضمن مناظرات ونقاشات حول الحرية والحقوق الإنسانية والتضامن. تبلورت هالمناظرات لتشكل عصر التنوير في أوروبا، اللي ينسب إليه الفضل بكثير من التحسنات في جودة وكرامة الحياة البشرية من تلك الحقبة وحتى اليوم.

راح نبحث في هالمقال عن مصدر الفضول الأوروبي اتجاه أفكار الحرية والمساواة والتضامن في القرن السابع عشر.

بتبدأ قصتنا باستكشاف البعثات الإسبانية للقارتين الأمريكيتين خلال محاولات الأوروبيين العثور على طريق إلى الهند لا يمر عبر الإمبراطورية العثمانية. كان اكتشاف أمريكا أمر مفصلي في الفكري الأوروبي لعدة أسباب، أبرزها اكتشاف سكان أصليين بيعيشوا أسلوب حياة مختلف إلى مدى بعيد عن أسلوب الحياة الأوروبية في تلك الفترة.

 الحقيقة إن القارتين الأمريكيتين كانوا وطن لأشكال مختلفة من الحضارات البشرية، بدايةً من القبائل الصغيرة ذات أسلوب الحياة البسيط، وصولًا إلى الممالك الضخمة لحضارات الإنكا والمايا في أمريكا الوسطى والجنوبية. خلال الفترة المبكرة من البعثات الأوروبية، تركزت المستوطنات في الساحل الشرقي من أمريكا الشمالية، حيث عاشت قبائل من السكان الأصليين مثل قبيلة الويندات والميكماك.

من وجهة نظر المستكشفين الأوروبيين، كان السكان الأصليين في الساحل الشرقي بيعيشوا حياة بسيطة، ووصفها البعض حتى بكونها بدائية. هالأمر خلق معضلة أخلاقية حول كيفية التعامل معهم، وإذا كان من المشروع أخلاقيًا ودينيًا وقانونيًا غزوهم والهيمنة عليهم. في الواقع، هالمعضلة أسهمت بتطور حقل قانوني معروف بالقانون الطبيعي، واللي بيسأل عن الحقوق اللي لازم تمنح لجميع البشر بحالتهم الطبيعية. هالموضوع في ذات الوقت أسهم بظهور سؤال المساواة وغيابها، حيث تساءل الكثر حول ما إذا كان السكان الأصليين “مساوين” لسكان أوروبا من ناحية الحقوق.

أول نتيجة لتفاعل المستكشفين الأوروبيين مع سكان أمريكا الأصليين كانت فكرة “الحالة الأصلية”. افترض الأوروبيين أن السكان الأصليين يعيشون حياة بسيطة لأنهم لم يمروا بمرحلة التطور الحضاري اللي مرت بها أوروبا، وبالتالي هم يعيشون في حالة أصلية كان كل البشر يعيش بها قبل تطور الحضارة. ونظرًا لأن أسلوب حياة السكان الأصليين كان يمتاز بالمساواة، افترض الأوروبيين أن الحالة الأصلية أو الطبيعية للبشر هي المساواة، وأن اللامساواة ظهرت مع الوقت مع تطور الحضارة.

ضمن هالسياق، من المفهوم إنه المجتمع الأكاديمي في ديجون كان بيتساءل حول “أصل” اللامساواة. في ذات الوقت، تم استخدام نظرية الحالة الأصلية لتبرير الكثير من الشناعات اللي ارتكبها الأوروبيين بحق السكان الأصليين، على اعتبار إنهم يعيشون خارج الحضارة والتاريخ، وأنهم بالتالي نوع أقل من البشر.

الحقيقة إن السكان الأصليين لم يكونوا بالبساطة اللي توهمها الأوروبيين، ورغم إن أسلوب حياتهم كان بسيط ظاهريًا، إلا أنهم توصلوا إليه عبر تاريخ طويل من التجارب السياسية وأشكال الحكم المختلفة، اللي انتهت بهم باختيار أسلوب حياة يعطي أهمية كبيرة لقيم الحرية والمساواة، ورفض أي نوع من التراتبية أو التبعية، وأي شكل من الأوامر والسلطات الملزمة.

المثير للاهتمام إنه سكان أمريكا الأصليين كانوا عم يشكلوا في ذات الوقت آراءهم الخاصة حول الأوروبيين وحضارتهم وأسلوب حياتهم. كان السكان الأصليين معروفين لمهاراتهم الخطابية والجدالية العالية، وانخرط العديد منهم في مناقشات ومناظرات مع مستكشفين أوروبيين، وكان المستكشفين لما يرجعوا على أوروبا ينشروا مذكرات عن ملاحظاتهم عن السكان الأصليين وتفاعلاتهم معهم، وأصبحت هالكتب من أكثر أنواع المطبوعات انتشارًا وشعبيةً في أوروبا في القرن السابع العشر.

خلونا نلقي نظرة إذًا على كيف كان سكان أمريكا الأصليين بيفكروا في الحضارة الأوروبية. كان الأب بيير بيارد أحد المبشرين الإنجيليين اللي سافروا لساحل أمريكا الشرقيين لتبشير قبيلة الميكماك في نوفا سكوتا، وكان لديه آراء متحفظة اتجاه الميكماك، لكن أبناء القبيلة كان لديهم آراء أكثر سلبية اتجاهه. كتب بيارد في مذكراته: “يعتبرون أنفسهم أفضل من الفرنسيين، لأنهم يقولون: أنتم دائما تقتتلون وتختصمون مع بعضكم، نحن نعيش بسلم. أنتم حسودون وتسيئون ذكر بعضكم طول الوقت، أنتم سارقون ومحتالون وطماعون، لا تظهرون كرمًا ولا عطفًا، أما نحن، لو كان لدينا قطعة خبز نقتسمها مع جارنا”. 

بعد عشرين عام من مذكرات بيارد، نشر جابريال ساجارد، مبشر آخر، مذكراته عن تفاعلاته مع قبيلة الويندات. في البداية، كان ساجارد متحفظ أيضًا اتجاه الويندات، وكان عنده قناعة إن كل نساء القبيلة بتحاول تنام معه. لكن مع اقتراب انتهاء مبعوثيته، أصبحت آراءه مختلفة، لدرجة اعتقاده بأن أسلوب حياة الويندات متفوق على الحياة الأوروبية: “ليس لديهم دعاوى قانونية ولا يعانون كثيرًا للحصول على ما يريدونه في الحياة، فيما نحن المسيحيون نعذب أنفسنا شديدًا لهذه الغايات، ونظرًا لجشعنا المبالغ به والفاحش نحرم أنفسنا من حياتهم الهادئة والمستقرة”.

مثلت كتابات ساجارد انعكاس للازدراء اللي أبدوه الويندات اتجاه افتقار الفرنسيين للكرم بين بعضهم البعض: “هم (الويندات) يردون المكرمة ويبذلون سخي المساعدة لأجل بعضهم البعض لدرجة أن الجميع لديه ما يحتاج من الضروريات دون وجود متسول مذلول واحد في بلداتهم وقراهم. وأبدوا استياءً شديدًا عندما عرفوا أن هناك في فرنسا الكثير من المتسولين المعوزين، واعتقدوا أن هذا نتيجة افتقارنا للكرم، ولامونا بقسوة على ذلك”. بعد عودته إلى أوروبا، أصبح كتاب مذكرات ساجارد من أكثر الكتب مبيعًا في فرنسا وأوروبا، واقتبسه العديد من المفكرين البارزين من تلك الفترة مثل جون لوك وفولتير.

في واقع الأمر، حقيقة أن السكان الأصليين عاشوا في مجتمعات حرة، وأن الأوروبيين لم يعيشوا في مجتمعات مماثلة، كانت حقيقة متفق عليها من الطرفين. الخلاف لم يكن هنا. الخلاف لدى الأوروبيين كان حول ما إذا كان من الفاضل والمرغوب العيش في مجتمعات حرة مماثلة من الأساس. رغم أننا نفكر بالحرية على إنها قيمة نبيلة وإيجابية اليوم، كان الأمر مختلف في أوروبا القرن السابع عشر.

كتب أحد المبشرين، لو جون، وهو يشعر بالصدمة من أسلوب حياة السكان الأصليين: “يتخيلون أنه من حقهم بالولادة أن يتمتعوا بالحرية التي يتمتع بها حصان جامح: لا يخفضون رأسهم لأي أحد على الإطلاق إلا إذا اختاروا ذلك. لقد وبخوني مئة مرة لأننا (الأوروبيين) نخشى قادتنا، بينما هم يضحكون ويعبثون مع قادتهم. كل ما يمتلكه قادتهم من قوة يكمن في فصاحتهم ومقدرتهم على الإقناع، وحتى لو قتل أحد القادة نفسه وهو يخطب ويحاجج في الجموع، فإنهم لن يمتثلوا إليه إلا لو أرضاهم ذلك”.

تتضح لنا هنا نقطة مهمة. بينما منميل للاعتقاد أن المستكشفين الأوروبيين يشبهوننا ويعتبرون نسخ مبكرة من إنسان اليوم، وبينما منعتقد أن سكان أمريكا الأصليين بعيدون ومختلفون عنا، إلا أن الواقع هو أقرب للعكس. لما يتعلق الأمر بالحرية أو المساواة بين المرأة والرجل أو السيادة الفردية، كان سكان أمريكا الأصليون أقرب إلينا اليوم بمراحل مما كان الأوروبيون ذلك الوقت.

كان لاهونتان أحد الأوروبيين اللي سافروا لأمريكا وعادوا لأوروبا لنشر عدة كتب عن تجاربهم. واحد من كتبه حمل عنوان “محادثات فضولية مع همجي ذو منطق وخبرة بالسفر”، يضم أربعة محادثات مع أحد أفراد قبيلة الويندات اسمه كانديارونك. صدف أن كان كانديارونك أحد السكان الأصليين اللي أتيحت لهم فرصة السفر إلى أوروبا ومراقبة أسلوب الحياة الأوروبي عن مسافة قريبة في باريس. ونتيجة لهالشي، كوّن كانديارونك نقد متقدم للمجتمع الأوروبي وقيمه.

تضمنت محادثات لاهونتان مع كانديارونك المواضيع المعتادة مثل نقد السكان الأصليين للنزاعات وغياب التكافل والانصياع الأعمى للسلطة بين الأوروبيين، وزاد عليها نقد لمفهوم الملكية الخاصة لدى الغربيين. يقول لاهونتان: “يعتقدون أنه لا يوجد عذر أو مبرر لكون أحد الأشخاص يملك أكثر من غيره، وأن الأغنياء يحصلون على احترام أكثر مما يحصل عليه الفقراء. باختصار، يقولون أن لقب “الهمج” الذي أطلقناه عليهم يصلح لوصفنا بشكل أدق، باعتبار أن لا شيء في تصرفاتنا يوحي بأي مظاهر الحكمة”.

بتدور واحدة من المحادثات بين الاثنين حول فكرة القانون الجزائي، ودور القانون في التأثير على سلوك الأفراد:

 لاهونتان: لهذا يجب أن يعاقب الأشقياء ويكافأ الأخيار. وإلا، فإن الجريمة والسرقة والإساءة ستنتشر في كل مكان، وسنصبح أكثر الناس بؤسًا على وجه الأرض.

كانديارونك: من جهتي، أجد من الصعب تصديق كيف بإمكانكم (الأوروبيين) أن تكونوا أكثر بؤسًا مما أنتم عليه بالفعل. أي نوع من البشر، أي فصيلة من الكائنات، على الأوروبيين أن يكونوها، لو كانوا يحتاجون أن يرغموا على القيام بما هو خير، ولا يرتدعوا عن فعل الشر إلّا خوفًا من العقاب؟ كما لاحظت، ليس لدينا قضاة. ما سبب ذلك؟ لأننا لا نرفع دعاوى على بعضنا البعض. ولماذا لا نفعل ذلك؟ حسنًا، لأننا اتخذنا قرارًا بألا نقبل ولا نستخدم المال. ولماذا نرفض دخول المال في مجتمعاتنا؟ السبب هو التالي: نحن مصممون على تجنب القوانين (الجزائية)، وأسلافنا كانوا قادرين على الحياة برضى بدونهم.

بتدور محادثة أخرى حول المال ودوره في تشكيل المجتمع:

كانديارونك: قضيت ست سنوات أتأمل في حالة المجتمع الأوروبي ولا أزال لا أستطيع التفكير بطريقة واحدة يتصرف بها الأوروبيون لا تعد لا إنسانية، وأعتقد بصدق أنه لا مهرب لكم من هذه الحالة طالما تتمسكون بتمييزكم بين ما هو لي وما هو لك. أؤكد أن ما تسموه المال هو شيطان الشياطين، طاغية فرنسا، مصدر كل الشرور (…) أن تتخيل شخصًا يعيش في بلاد قائمة على المال ويحافظ على روحه هو أشبه بتخيل شخص في قاع بحيرة قادر على الحفاظ على حياته. المال هو أب البذخ، الترف، الرغبة، الخداع، الكذب، الخيانة، عدم النزاهة – أب كل السلوكيات السيئة في العالم. يبيع الآباء أولادهم، الأزواج زوجاتهم، تخون الزوجات أزواجهن، يقتل الإخوة بعضهم البعض، الأصدقاء زائفون، كل ذلك بسبب المال. في ضوء كل هذا، قل لي أن الويندات غير محقين في رفضهم أن يلمسوا، أو حتى ينظروا، إلى الفضة.

لاهونتان: حاول لمرة أن تصغي. ألا يمكنك أن ترى، صديقي العزيز، أن أمم أوروبا لا تستطيع البقاء بلا ذهب وفضة. بدون المال، النبلاء والقسيسين والتجار والعديد من الناس الذين يفتقرون للقوة اللازمة للعمل في الأرض سيموتون من الجوع ببساطة. ملوكنا لن يبقوا ملوكًا، وأي نوع من الجنود سيكون لدينا؟ من، حينها، سيعمل لخدمة الملوك أو سواهم؟ سيؤدي ذلك إلى انحدار أوروبا إلى الفوضى.

كانديارونك: هل تعتقد بصدق أنك ستغير رأيي عبر التحدث عن حاجات النبلاء والتجار ورجال الدين؟ لو تخليتم عن تمييزكم بين ما هو لي وما هو لك، أجل، ستزول هذه الفروقات بين الناس، وستحل محلها مساواة تضع جميع الأوروبيين على قدم المساواة كما هو الحال مع الويندات. وأجل، لأول ثلاثين سنة بعد نبذكم للمصلحة الذاتية، لا شك أنكم سترون نهاية هؤلاء الذين لا يجيدون سوى الأكل والشرب والنوم والاستمتاع بالحياة – ستتدهور أحوالهم ويموتون. لكن زوالهم يناسب طريقتنا بالحياة. مرارًا وتكرارًا، طرحت لك القيم والخصائص التي نعتقد في قبيلة الويندات أنها يجب أن تلهم الحياة البشرية، الحكمة والمنطق والعدالة، وأريتك كيف أن وجود المصالح المادية المنفصلة يقضي على كل هذه القيم النبيلة. الشخص الذي تحفزه مصلحته الخاصة لا يمكن أن يكون شخصًا عقلانيًا.

بشكل مشابه لباقي كتب المبشرين والمستكشفين الأوروبيين الآخرين، حققت كتب لاهونتان، خاصةً محادثاته مع كانديارونك، شعبية واسعة في أوروبا. السبب وراء نجاح هالكتب كان بالتحديد النقد اللي قدمه سكان أمريكا الأصليين للحضارة الأوروبية، واللي دفع الأوروبيين لإعادة النظر في قيمهم وأسلوب حياتهم، ورؤية أنفسهم عبر أعين مختلفة. وفي الحقيقة، اعترف الكثير من مفكري التنوير الأوروبي البارزين بتأثرهم بأفكار سكان أمريكا الأصليين.

رغم ذلك، رفض الأكاديميين والمؤرخين لوقت طويل، والكثير منهم يرفض حتى اليوم، الاعتراف بمساهمة السكان الأصليين في التنوير الأوروبي. هالرفض عادةً ما يأخذ شكل اختزال السكان الأصليين بصور نمطية أحادية الأبعاد، سواءً عبر تصويرهم كهمج (شياطين) أو أبرياء في حالة طبيعية أصلية نقية (ملائكة). لم يكن السكان الأصليين لا ملائكة ولا شياطين، بل كانوا بشر مشابهين لنا إلى مدى بعيد، خاضوا تاريخ طويل من التجريب السياسي والمجتمعي، قبل ما يتوصلوا إلى أسلوب حياتهم وقيمهم ومخيلتهم السياسية اللي أنتجت نقد لمّاح ومتماسك للحضارة الأوروبية.

الحقيقة أن هالأفكار مش نظرية فقط. خلال فترة الاستعمار الأوروبي لأمريكا، حصلت العديد من الحالات اللي قرر فيها بعض السكان الأصليين العيش مع الأوروبيين، وفي المقابل قرر بعض الأوروبيين تجربة الحياة مع السكان الأصليين. في حال كان سكان أمريكا بالفعل بسطاء وإما ملائكة أو شياطين، كان من المفروض أننا نشهد نجاح وانتشار للهجرة من أسلوب حياتهم إلى الأسلوب الأوروبي، وفي المقابل نشهد فشل لمحاولات الأوروبيين للتأقلم مع أسلوب حياة السكان الأصليين. إلا أن الواقع لم يعكس هالتوقع.

كانت هيلينا فايلرو فتاة بيضاء إسبانية الأصل تعرضت للاختطاف من أسرتها في صغرها في البرازيل من قبل قبيلة اليانومامي. عاشت هيلينا مع القبيلة لعقدين، تزوجت مرتين، وحققت مكانة معتبرة ضمن مجتمعها، إلا أنها في ذات الوقت نفرت من القسوة اللي بتميز حياة اليانومامي، خاصةً هجماتهم على قبائل أخرى. في مرحلة من حياتها، تمكنت هيلينا من مغادرة اليانومامي والعودة إلى الحضارة الأوروبية، لكنها خلال الوقت وجدت نفسها في حالة صعبة من الجوع والرفض والوحدة. بعد ما أصبح لدى هيلينا تصور واضح عن الحياة وسط المجتمعين الأصلي والأوروبي، قررت طواعيةً العودة إلى اليانومامي وقضاء بقية حياتها معهم.

لم تكن قصة هيلينا استثنائية. التاريخ الاستعماري الأوروبي في أمريكا الشمالية والجنوبية يزدحم بقصص لأوروبيين تعرضوا للتبني أو الاختطاف من قبل السكان الأصليين، ومع الوقت عندما أتيحت لهم فرصة العودة إلى الحضارة الأوروبية، أو حتى عندما عثرت عليهم عائلاتهم الأصلية، اختاروا في الغالبية العظمى من الحالات البقاء ضمن حياتهم الجديدة مع السكان الأصليين. في المقابل، شهدت الفترة نشأة العديد من السكان الأصليين ضمن مجتمعات أوروبية، نتيجة تبني أو زواج، وانتهت معظم هالحالات بهرب هالأشخاص من مجتمعاتهم الأوروبية وعودتهم إلى أوساط السكان الأصليين.

خلال السنوات الماضية، عملت مجموعة من الأكاديميين الأمريكين، الكثير منهم منحدرين من السكان الأصليين، على تجميع هالأفكار والكتب والمحادثات، تحت نظرية اسمها “النقد الأصلي”، واللي بتشجع على الاعتراف بالدور الحاسم اللي لعبه نقد السكان الأصليين للمجتمع الأوروبي في إلهام عصر التنوير الأوروبي والعديد من أحداثه المحورية مثل الثورة الفرنسية.

عودةً إلى بداية حديثنا، قد لا يكون سؤال “ما هو أصل اللامساوة” مهمًا بقدر أهمية سؤال لماذا كان الأوروبيين مهتمين بأصل المساواة في القرن السابع عشر، بعد أن كانت فكرة المساواة وعدمها غائبة عن معظم تاريخ الفكر الأوروبي؟ الجواب الأكثر ترجيحًا اليوم يقول أن الأوروبيين عندما احتكوا بسكان أمريكا الأصليين، وتعرفوا على أسلوب حياتهم، اكتشفوا أن أسلوب الحياة الأوروبي في العصور الوسطى لم يكن أسلوب الحياة الوحيد، وقطعًا ليس أسلوب الحياة الأمثل.

المزيد من مقالات تكسير

Add Your Heading Text Here