أحلام العملات المشفرة

كتابة: عمار منلا حسن


نشر موقع صفر مؤخرًا مقالًا بعنوان “أوهام العملات الرقمية“، يحاجج كاتبه أن العملات المشفرة فشلت في حل مشاكل في النظام المالي العالمي، بل وخلقت المزيد من المشاكل. نعتقد أنه من المتسرع الترحّم على تقنيات ناشئة مثل البلوكتشين، ومن غير الحكيم أن ننسحب من تكنولوجيا ستؤثر على جوانب مختلفة من حياتنا في المستقبل، بدلًا من المشاركة فيها ودفعها باتجاهٍ يخدم قيمنا واحتياجاتنا على نحوٍ أفضل. في هذا الرد، نستعرض بعض المشاكل في منطق مقال صفر، ونوضح بعض من أهم جوانب تقنية البلوكتشين والعملات المشفرة للنظام المالي العالمي ولسكان المنطقة العربية.

دعونا نبدأ من توضيح بعض الالتباسات المفاهيمية في مقال صفر. الالتباس الأهم هو الخلط بين تقنية البلوكتشين والعملات المشفرة، وهو أشبه بالخلط بين الإنترنت والإيميل. الإيميل هو واحد من تطبيقات عديدة للإنترنت، والعملات المشفرة هي واحدة من تطبيقات عديدة لتقنية البلوكتشين. في هذا المقال، سنناقش إمكانيات ووعود تقنية البلوكتشين ككل، دون الاقتصار على العملات المشفرة. الالتباس الآخر المهم هو افتراض أن جميع العملات المشفرة متقلبة سعريًا، بشكل لا يعترف بوجود العملات الثابتة (stablecoins)، وهي عملات مشفرة تحمل قيمة ثابتة مقارنةً بعملات وطنية مثل الدولار، وتعد من أكثر العملات المشفرة تداولًا وشيوعًا. وفقًا لإحصائيات كوين متريكس، تم استخدام العملات الثابتة لتسوية تعاملات مالية بقيمة ٧ ترليون دولار في عام ٢٠٢٢ وحده.

هناك أيضًا عدة أنواع من الاختزالية والانتقائية في المقال، بدايةً من الاختزالية الإيديولوجية، حيث يفترض المقال أن الكريبتو هو تقنية ليبرتارية \ أناركية. رغم وجود نسبة كبيرة من المنتمين لهذين التيارين في عالم الكريبتو، إلا أن هذا لا يعني أن التقنية هي ليبرتارية \ أناركية بحد ذاتها، هناك وجود يساري ويميني واشتراكي ووسطي، ومع زيادة تبني البلوكتشين، يصبح جمهورها أكثر تنوعًا. هناك اختزالية مفاهيمية، حيث يناقش الكاتب أهداف معينة محدودة لتقنية البلوكتشين، مركزًا على الأهداف التي لم تثمر نتائج كبيرة أو جادة حتى الآن، مثل مقاومة التضخم، في حين وجود أهداف وجوانب أخرى من هذه التقنية حققت نجاحات كبيرة بالفعل. وأخيرًا هناك اختزال تقني، حيث تم التركيز على البيتكوين وإهمال عشرات شبكات البلوكتشين وآلاف العملات المشفرة الأخرى. عند ممارسة درجة مماثلة من الاختزال متعدد المستويات، يمكن الإطاحة، نظريًا، بأي تقنية أو حركة.

سنتحدث عن البلوكتشن على مستويين، أولًا من منظور كونها تقنية، وثانيًا من منظور كونها حركة اجتماعية. كتقنية، تعتبر البلوكتشين تقنية استخدام عام، أو General Purpose Technology، أي أنها، بشكلٍ مشابه للكهرباء والإنترنت والذكاء الصناعي، تقنية قادرة على التأثير بشكل عميق على قطاعات مختلفة وواسعة، مثل التمويل والحوكمة والبيانات والصحة والثقافة وسلاسل التوريد. بإمكاننا تعميم هذه الخاصية على العملات المشفرة، إذ أنها تمكّن نطاقًا واسعًا من حالات الاستخدام، مثل التصويت والحوكمة وإثبات الحصة وتفتيت الملكية والدفعات المصغرة (micropayments) وبرامج الولاء والترميز (tokenization) والإدمجال المالي والتسوية الفورية وزيادة الشفافية، وأجل، مقاومة التضخم.

كما نرى، محاربة التضخم ليست الغرض الأساسي ولا الوحيد لتقنية البلوكتشين والعملات المشفرة. مع ذلك، فإن القول إن العملات المشفرة فشلت بتحقيق نجاح على هذا المستوى هو استنتاج متسرع، وببساطة، خاطئ. في البداية، يستخدم الكاتب البيتكوين، واحدة من آلاف العملات المشفرة، كمثال وحيد في المقال، ويتوصل إلى نتيجته عبر الإشارة إلى التقلب السعري الحاد في قيمة البيتكوين خلال العامين الماضيين. يمكن عزو هذا التقلب إلى كون بيتكون لا تزال في مرحلة مبكرة للغاية من حيث التبني (حوالي ٤.٥٪ من سكان الكوكب وفق إحدى التقديرات)، ومن المتوقع أن تؤدي زيادة التبني إلى استقرارها إلى درجة قريبة من استقرار سعر الذهب، ومن هنا وصف البيتكوين على أنها الذهب الرقمي (وليس المال الرقمي).

من ناحية أخرى، عند النظر إلى التاريخ السعري لبيتكوين منذ إطلاقها في ٢٠٠٩ وحتى اليوم، يتضح لنا أن خط التوجه العام (trend line) في صعود دوري، حيث تبدأ كل دورة عند تنصيف البيتكوين (تخفيض مكافآت البيتكوين الموزعة على المعدنين إلى النصف)، وهو أمر يحصل كل أربعة سنوات. لذلك من المبكر القول إن النموذج الانمكاشي للبيتكوين قد أثبت فشله، في الواقع لقد أثبت هذا النموذج نجاحه حتى الآن عبر ارتفاع القيمة الوسطية للبيتكوين بشكل ثابت في كل دورة من أربع سنوات.

وأخيرًا، بإمكاننا العثور على قصص نجاح أكثر إثارةً للاهتمام عبر النظر إلى عملات مشفرة أخرى مثل إيثيريوم. حتى وقتٍ قريب، كانت رسوم المعاملات على إيثيريوم توزع كجوائز على المعدنين، لكن بعد تعديلين هامين في الشبكة في العامين الماضيين، تم تطبيق آلية جديدة تقوم بشراء وحرق عملات إيثيريوم بمعظم المبالغ المتحصلة من رسوم المعاملات، وبالتالي كلما ازدادت وتيرة استخدام الشبكة كلما زاد عدد عملات إيثيريوم المحروقة، ما جعل عملة إيثيريوم انكماشية بطريقة ديناميكية، خلاف بيتكوين التي تعتمد نموذج ثابت (وضع حد أقصى على عدد عملات البيتكوين الإجمالية) في الوصول إلى الانكماشية.

لكن دعونا نتحدث عن حالات استخدام العملات المشفرة التي أثبتت بالفعل نجاحًا ملحوظً، خاصةً تلك التي تلمس احتياجاتنا كسكان المنطقة العربية. لا يمكننا ألّا نبدأ من جانب الإدماج المالي، حيث تعد المنطقة العربية من أكثر المناطق العالمية تعرضًا للإقصاء من النظام البنكي، يعيش عدد كبير من سكانها بحرمان جزئي أو كلي من الخدمات البنكية، عاجزين عن تأسيس حياة مالية أو الالتحاق بالاقتصاد الرقمي.

ليس علي الابتعاد كثيرًا للعثور على أمثلة، حيث عجزت شخصيًا، رغم كثرة محاولاتي، عن فتح حساب بنك كمواطن سوري خلال حياتي في لبنان وقبلها مصر، الأمر الذي عرضني لصعوبات في استلام وإرسال الأموال، ووضعني تحت رحمة شركات التحويل التي تتقاضى رسومها العالية حتى في حالات رفض ورد الحوالة. بفضل الطبيعة اللاإذنية لتقنية البلوكتشين، صار لدي حياة مالية متكاملة، ووصول على كافة الخدمات والفرص الذي قد يصل إليها مضارب في وولستريت، من الإرسال والاستلام إلى الاستثمار أو تداول منتجات مالية بسيطة ومعقدة واستخدام وتقديم الخدمات المالية كالاستلاف والتسليف وتزويد السيولة.

هذا الجانب من العملات المشفرة يجعلها مثالية للاستخدام في حالات الأزمات والكوارث، حيث هرّب الكثير من الأوكرانيين أموالهم خارج البلاد عبر استخدام عملات مشفرة ثابتة، كما تم استخدام هذه العمالات لتحويل المساعدات العالمية إلى حكومة أوكرانيا، وأخيرًا، تم استخدام العملات المشفرة مؤخرًا لإيصال المساعدات بأسرع وأكثر الطرق كفاءةً إلى السوريين المتضررين من الزلزال الأخير بين سوريا وتركيا (تم إرسال قرابة ٦ ملايين دولار للمتضررين خلال الأيام العشرة الأولى).

إلى جانب الإدماج المالي، حققت تقنية البلوكتشين والعملات المشفرة نجاحًا بتخفيض كلفة ووقت التعاملات المالية إلى درجة راديكالية، واليوم تستخدم أعداد متزايدة من المصارف حول العالم تقنية البلوكتشين بدلًا من النظم القديمة المعتمدة على دور التسوية (Clearing Houses). حصلنا في تكسير على منحة العام الماضي، وساعدنا صديق على استلامها وتحويلها إلى عملات مشفرة ثابتة ثم إرسالها إلينا في لبنان، الأمر الذي كلفنا ١٪ فقط من المبلغ الإجمالي، في حين كنا سنتكلف ما بين ٥-٧٪ في حال استخدمنا وسترن يونين مثلًا، بين رسوم إرسال واستلام وتحويل. يعتمد سكان دول مثل لبنان وسوريا بشكل كبير على حوالات المغتربين، وبإمكان توفيرات مماثلة في كلفة التحاويل أن تخلق فارقًا حقيقيًا مع الوقت.

بالإضافة إلى ما سبق، يساهم إلغاء الوسيط في العالم المالي بشكل مباشر بتقليص، أو على الأقل إبطاء توسع، الفجوة الطبقية. في العالم المالي التقليدي، ندفع نسبةً من أموالنا للأشخاص الأكثر ثراءً في كل مرة نستخدم فيها بطاقة ائتمان أو صراف آلي أو نحول فيها أموالنا من عملة إلى أخرى أو من حساب إلى آخر. في عالم التمويل اللامركزي، أو المعروف في الكريبتو بالـ دي فاي (DeFi)، لا يوجد تسرب مماثل في القيمة من الأسفل إلى الأعلى، حيث تتوافر خدمات مالية موازية مبنية على تطبيقات مؤتمتة بالكامل باستخدام العقود الذكية، وتتطلب كلفة هامشية لاستخدامها.

دعونا ننتقل الآن للحديث عن البلوكتشين كحركة اجتماعية. يصور مقال صفر البلوكتشين على أنها مجموعة من الفوضويين الليبرتاريين المتعطشين لتحقيق الأرباح. لقول الحق، هناك بعض من الصواب في هذه الصورة، إذ أن هذه المجموعة ممثلة وبقوة في فضاء البلوكتشين. هذا لا يعني أن تصوير البلوكتشين على هذا النحو لا يخلو من اختزال مخل. (ملاحظة: سنشير إلى الأناركية باستخدام كلمة لاسلطوية، بدلًا من الفوضوية التي استخدها موقع صفر، والتي تحمل دلالات سلبية).

لو قرأنا مقال التحرير عبر لامركزية راديكالية، الذي يعد بمثابة مانيفستو لحركة البلوكتشين، لعثرنا على طرح واضح ومنطقي يشرح نزعة البلوكتشين للابتعاد عن السلطات المركزية. يتحدث كاتبا المقال عن أزمة الثقة في الأنظمة المركزية العالمية، وينوهان إلى أن “ردة الفعل الأكثر انتشارًا من كلا اليمين واليسار (انسحاب من التكنولوجيا والأسواق والتعاون الدولي) قد تدمر عدة من أكثر الأمور التي نقيمها في مجتمعاتنا المعاصرة، بينما تعمق المشاكل التي تسعى إلى حلها”، ويدعوان إلى “العثور على طرق لاستخدام الأسواق والتكنولوجيا كي نفكك مركزية السلطة بكل أشكالها على نحوٍ راديكالي، وكي نتحول من الاعتماد على سلطات إلى الاعتماد على قوانين رسمية.”

إذًا الدعوة هنا ليست لخلق فراغ سلطة يستغله الرأسماليون، بل إلى انتقال ممنهج وحذر من الاعتماد على أنظمة الثقة، التي تتطلب مننا الثقة بأن السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية تقوم بواجباتها بشكلٍ يخدم مصالح ممثليها على أفضل وجه، إلى أنظمة لاثقوية، تحكم فيها القوانين الرسمية ويتم تطبيقها بشكل مؤتمت بالاعتماد على تقنيات مثل العقود الذكية. على سبيل المثال، بإمكاننا إصدار مال مبرمج يتضمن عقودًا ذكية تقوم باقتطاع الضرائب بشكل أوتوماتيكي، بشكلٍ يزيل الحاجة إلى سلطات مركزية تمارس دور الرقابة الضريبية وتخفق به عن عمد أو سهو.

بإمكاننا فهم البلوكتشين كحركة اجتماعية على نحو أعمق عبر مقارنة بين حركتي احتلوا والستريت (٢٠١١) وملحمة والستريت بِتس (٢٠٢١). في ٢٠١١، شهدنا حركة احتلوا والستريت التي استمرت لقرابة شهرين دون أن تحقق أي نتائج تذكر. كانت هذه الحركة عاطفية، صوابية، إيديولوجية خطابية ومشهدية. النتيجة؟ كل ما تبقى منها هو هذا الفيديو لمستثمري والستريت يشربون الشامبانيا، يضحكون على المحتجين ويصورونهم بهواتفهم النقالة.

بعد عشرة سنوات، في ٢٠٢١، ظهرت حركة أخرى، قام عشرات الآلاف من مستخدمي موقع ريديت بالاستثمار في شركات مهددة بالإفلاس بسبب استهدافها من قبل مستثمرين والستريت. كانت هذه الحركة، التي وصفت لاحقُا بالملحمة (saga)، نظمية، علمية، مخططة، وقائمة على التلاعب بالنظام من الداخل بدلًا من الانسحاب والاحتجاج من موقف ضعف. النتيجة؟ خسرت شركات والستريت أكثر من سبعة مليارات دولار في ظرف أيام، وظهر مدراء دور المضاربة يبكون على محطات التلفاز، يتوسلون إنقاذًا حكوميًا لم يحصل، وانتهى الأمر بإفلاس العديد منهم.

البلوكتشين كحركة اجتماعية تتشارك الكثير من الخصائص مع ملحمة والستريت عام ٢٠٢١. تهدف هذه الحركة إلى جعل المنظمات والأنظمة الحالية مفرغة ومنتهية الصلاحية ليس عبر الاحتجاج، إنما عبر بناء بدائل أفضل، وبهذا تظهر هذه الحركة أن البناء بإمكانه أن يكون أداة احتجاج راديكالية وأكثر خطورة من (محاولة) الهدم. في وقت ذروة سوق الكريبتو أواخر عام ٢٠٢١، وصلت قيمة السوق الكلية إلى قرابة الثلاثة ترليون دولار، مبلغ مهول انسحب من والستريت وسيليكون فالي وهوليود إلى شركات عالمية لاإذنية ولامركزية بمعظمها. ليست نتيجة سيئة لحركة بدأت من أكثر بقليل من عقد.

ختامًا، أود القول إن البلوكتشين، كالإنترنت، تكنولوجيا حيادية، وتقع علينا مسؤولية دفعها إلى مسار يناسب قيمنا وتطلعاتنا منها. صحيح أن لأناركيي الأسواق المفتوحة والليبرتاريين صوت عالي في الساحة اليوم (وحلال عليهم بالمناسبة)، إلا أن هذا لا يعود إلى مشكلة في البلوكتشين، بقدر ما يعود إلى سلبية وتوجس تيارات عديدة مثل اليسار التقدمي والماركسية والنظرية النقدية، التي اتبعت توجهًا تطهريًا مع هذه التقنية الناشئة، وفضلت الانسحاب والاحتجاج من الخارج. عندما تنسحب هذه التيارات طواعيةً من الطاولة، عليها ألا تتوقع أن تدافع بقية التيارات عن قيمها وتطلعاتها.

كتب هذا المقال بالتوافق مع قاموس أبجداو لمصطلحات البلوكتشين والويب الثالث.

Add Your Heading Text Here